لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم.
الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
83360 مشاهدة
مسـألة الإيمان قول وعمل

  وقوله:  
( والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان. قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (البينة:5) فجعل عبادة الله تعالى، وإخلاص القلب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، كله من الدين. )


شرح:
هذا الموضوع يقال له: أسماء الإيمان والدين، ويتعلق به التكفير والتفسيق ونحوه، وهو الذي عند المعتزلة يسمى المنزلة بين المنزلتين؛ وذلك لأن الأمة اختلفوا في مسمى الإيمان فتباينت فيه أقوالهم.
والإيمان في اللغة هو التصديق، ولكن الشرع أضاف إليه إضافات وأدخل فيه الأعمال، وأدخل فيه الأقوال، فأصبح الإيمان شاملا للعقائد والأقوال والأعمال، أصبح مسمىً شرعياً، وما ذاك إلا أن المسميات الشرعية نقلت من مسماها اللغوي إلى مسمى خاص كسائر المسميات الشرعية.
فالعرب لا تعرف اسم الإيمان إلا أنه التصديق، ولا تعرف اسم الكفر إلا أنه التغطية، تغطية الشيء وستره يسمى عندهم كفرًا لقول شاعرهم: <شعر نوع=1> [open] في ليلة كَفَر النجُومَ ظلامها [close] ولا تعرف الفسق إلا أنه الخروج، فسقت الرطبة: خرجت من قشرتها، ولا تعرف النفاق إلا أنه الاستخفاء، ولا تعرف الشرك إلا المشاركة في التجارة أو نحوها، ولا تعرف التوحيد إلا أنه الواحد المفرد.
فجاء الشرع وجعل لهذه الأشياء مسميات شرعية، ونقلها من المسمى اللغوي إلى المسمى الشرعي.
فالإيمان: قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، هذا مسمى الإيمان في الشرع أدخل فيه الأعمال وسماه إيمانا كما ستأتي عليه الأدلة إن شاء الله.
أما الكفر: فإنه الخروج من الدين، فجحد الرسالة، وجحد النبوة، وجحد التوحيد وإنكار العبادة يسمى كفرا شرعياً.
أما الفسوق: فهو المعصية؛ لأنها خروج عن الطاعة.
أما النفاق: فهو مسمى شرعي يطلق على إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
أما التوحيد: فنقل من مسماه اللغوي إلى مسمى شرعي، وهو إفراد الله بالعبادة.
أما الشرك: فنقل من مسماه اللغوي إلى مسمى شرعي، وجعل اسما لدعوة الله ودعوة غيره معه، فإشراك غير الله معه في نوع من أنواع العبادة يسمى شركاً.
   فهذه مسميات نقلها الشرع وجعلها لمسميات خاصة، والكلام الآن عن الإيمان، وذلك لقدم وقوة الخلاف فيه:
فذهب بعضهم إلى أن الإيمان هو المعرفة، فمن عرف فهو مؤمن عندهم ، فهل هذا صحيح ؟! الله تعالى رتب على الإيمان الجزاء، رتب عليه الثواب، فكثيرا ما يذكر الله الإيمان ويذكر ثوابه، فهل كل عارف يستحق الثواب ؟ معروف أن فرعون عارف قال الله تعالى عن موسى لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ (الإسراء:102) فهل فرعون مؤمن ؟! .
وكذلك إبليس عارف بالله، وعارف بأن الله ربه هو الخالق، فهل يقال: إنه مؤمن مستحق للثواب ؟‍! ، وكذلك أيضاً المنافقون ؛ كثير منهم عارفون ولكنهم جحدوا عناداً، والمشركون عارفون أيضاً، يقول الله تعالى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (الأنعام:33) فهل يقال: إنهم مؤمنون يستحقون ثواب الإيمان ؟ .
إذن عرفنا أن هذا القول باطل، وهناك من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق ، وهذا القول مشهور عند الحنفية، وقالوا: إنه مسمى الإيمان في اللغة، ولهم كلام طويل، ولكن نحن نقول: إن الله تعالى قد وصف المؤمنين بصفات زائدة على التصديق، مما يدل على أنه لا بد مع التصديق من الأعمال، فلا يكون المؤمن مؤمنا إلا بتلك الأعمال.
الدليل الأول: قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (الأنفال:2-3) فجعل المؤمنين حقا هم المتصفون بهذه الصفات الخمس، ومنها ما هو عمل بدني كالصلاة، أو عمل مالي كالنفقة، أو عمل قولي كالذكر، أو عمل قلبي كالوجل، فدل على أن الإيمان يعم هذه الأشياء.
الدليل الثاني: قوله تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (السجدة:15) نفى الإيمان عن غير هؤلاء، فأصبح من الإيمان الخرور سجودا لله إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا (السجدة:15) والتسبيح بحمد الله وعدم الاستكبار والتجافي تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ (السجدة:16) والدعاء يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا (السجدة:16) إلى آخرها، فهذا كله من الإيمان.